كلما نظرت أمامي و ورائي٬ و عن يميني و يساري٬ و تحت أقدامي لم أجد كل شيء على ما يرام. لأني كلما أخذت نفسا عميقا٬ كي ألقي نظرة واحدة على الواقع المحيط بي٬ و أنا واقف على شرفة الظلام٬ أرقب ما يجري في الشارع المجاور لجحور بعض الخفافيش البيضاء ٬ إذا بالتلوث السمعي و البصري و اللغوي٬ و الذوقي و الأخلاقي و السياسي٬ ينبعث من الواقع المنتن المنسي٬ و ذلك جراء التهميش و الإهمال الذي تعرض له من طرف أبناءه الأشقياء٬ الذين ألبسوه لباس العري و العار. حيث في الوقت الذي كان لزاما عليه أن ينتبه إلى ما تفعله به أيادي الشر٬ ظل يتجول في دروب من الصمت اللعين٬ يجر رداءه الثقيل٬ معرضا لفنون الذل و الهوان و الإنكسار٬ و محذرا من الصراخ و السخط
و التذمر٬باعتباره تمردا عن الأعراف و خروجا عن المألوف.
عادة أفتح عيناي لأرى الشمس مشرقة٬ و الصباح مبتهجا٬ و البسمة على شفاه البؤساء مرسومة٬ و أوهم نفسي بأن كل شيء على ما يرام٬ إلا أن سواد الأفق يحد من نظري٬
و شبح البطالة يطاردني٬ و ريح الخيانة تهز أركاني٬ و كابوس التغيير يؤرقني٬.. و يزيد هذا و ذاك من تلاطم أمواج الحقد و الكراهية التي لا تنفك على ضرب فؤادي الجريح٬ و عالمي المكسور. و يزيد ذلك من شقوقه التي لم تتوقف يوما عن الإتساع٬ لبركان على وشك الإنفجار في وجه جميع الخونة المقامرين بمصيرنا نحن البؤساء و المستضعفين.
انه لمن الصعب٬ إن لم يكن من المستحيل٬ أن يعيش كل إنسان حر و مستقل٬ في هذا الصخب و النصب٬ و أن يرضى بالعيش الدنيء في دروب من الصمت الرهيب ٬و دون قول أي شيء. و كون هذا الإنسان٬ كما عرفه الدكتور عبد الغفار مكاوي٬ بطبعه حيوان غاضب٬ و ساخط و محتج٬ لا يكف عن قول لا لكل ما يشوهه و حياته و العالم الذي هو جزء منه. لأنه من خلال تجرئه على لفظ كلمة لا٬ يثبت وجوده الإنساني٬ و يؤكد مسؤوليته عن تطوير واقعه و تغييره٬ و بالتالي ترسيخه لشأن الحق و الخير و الجمال فيه. و عند اختيار كل إنسان لهذا الدرب الصراخي المعقلن٬ نكون عندئذ قد قطعنا شوطا مهما في مرحلة الاستعداد لبناء صرح الديمقراطية٬ المبنية على حرية التعبير و حقوق الإنسان٬ من خلال ضمان حق العيش الكريم. و آنذاك يمكن أن نقول" نعم هناك على الأقل شيء على ما يرام."